قصة
سيف واثق
لا اذكر التاريخ بالتحديد لكن ومع كل ذلك المزيج بين اصوات طائرات الاباتشي ومدرعات الجيش الامريكي ومع رائحة
الكبريت في الهواء لابد انها كانت بغداد عام ٢٠٠٣
لانا الطفلة...
في عام ٢٠٠٣ بلغت سن السادسة من عمري كنت طفلة محبوبة هادئة في معظم الاحيان احب الخروج الى الحديقة كانت حديقتنا تحتوي على شجرتين تفاح ورمان كانتا مثمرتين احببت حديقنتا كثيرا حين كانت امي تمنعني من الخروج وهذا ماكان يحصل دائماً كنت اجلس في نافذة المطبخ المطلة على الحديقة كنت حقاً مولعة بالاشجار
اجلس في تلك النافذة لفترات طويلة جدا لدرجة اني كنت اشعر باني اصبحت جزء منها
في ذلك اليوم كنت قد جلست كالعادة في نافذتي اتامل تلك الفراشات اللاتي كن وكانهن يخترن اطيب الرحيق من ورود حديقتنا ليذهبن به الى منازلهن كنت اتحدث مع تلك الفراشات من خلف قضبان نافذتي حين رايت فتاة بالزي العسكري نزلت من سيارة مدرعة وقفت امام منزلنا كانت تلك الفتاة جميلة بشكل لا يصدق هي وشعرها الاشقر كانت جميلة وغريبة حقاً
نزلت الفتاة الى الحديقة فهربت جميع الفراشات!
استغربت كثيراً فما اعرفه ان بين الفتيات والفراشات عهد صلح لايهرب احدهما من الاخر
ربما هربن لكون تلك الفتاة كانت تحمل سلاح فليس هناك عهد صلح بين الفراشات والاسلحة
ولا بين الفتيات والاسلحة.
صوت اخرجني من تاملي لتلك الفتاة "لانا وخري من الشباك"
كانت هذه امي شابة في التاسعة والعشرين من عمرها
متعبة
متوترة
قلقة
فاتنة ذات صوت رقيق
نعم انها امي ابعدتني عن النافذة ركضت بي الى تحت الدرج
لم استغرب لاني كنت قد تعودت على الامر في الشهور القليلة الاخيرة كوني كنت اسمع الكبار يقولون بان بغداد قد سقطت!!
كنت اتسائل لماذا نختبئ تحت الدرج كلما كانت بغداد تسقط؟!
ولماذا عندما اسقط انا يعتنون بي، يحضرون لي الحلوى يضمدون جرحي ان كنت قد جرحت لم يهرب احد مني الى تحت الدرج في كل سقطاتي...
لماذا حين سقطت بغداد هربنا جميعاً الى تحت الدرج؟!
هل من المعقول انهم يحبونني اكثر من بغداد!
لا اعتقد، ربما كانت بغداد كبيرة لدرجة انها تستطيع الاهتمام
بنفسها حين تسقط اما انا كنت صغيرة لا استطيع فعل ذلك،
على اية حال كنت احب المكان تحت الدرج فهو دافئ وصغير لايتسع لنا جميعاً فنتجمع بجوار بعضنا كنت اشعر انذاك بحب اكبر لاننا اقرب الى بعضنا وهذا كان امر جيد بالنسبة لي
وايضاً كلما كنا ندخل تحت الدرج كانو يطلقون الالعاب النارية في الخارج كنت اسمع اصواتها ولطالما تمنين الخروج لرؤيتها لكنهم لم يسمحوا لي بالخروج ربما كانت عائلتي لاتحب الالعاب النارية، ربما كانوا في الخارج يحتفلون لان بغداد لم تتاذى من سقطتها هذه او ربما كانوا يحتفلون بسقوطها لا اعرف...
عند انتهاء حفلة الالعاب النارية كنا نخرج من تحت الدرج ونعود لحياتنا الطبيعية في المنزل واعود انا لنافذتي بعد كل حفلة العاب نارية كنت ارى احد منازل الجيران قد هدم وكانوا الجيران يختفون تدريجياً، كنت اسال امي عن السبب فتقول بانهم قد سافروا وهدموا منزلهم لانهم عند عودتهم سيبنون لانفسهم منزل اكبر واجمل وكنت اسالها دائماً
متى نسافر نحن؟
ومتى نعود لنبني منزل اجمل؟!
لم تكن تجيبني في كل مرة اسال هذا السؤال!
عندما كنت طفلة كان لدي حلم جديد لكل يوم جديد كنت حين استيقظ في الصباح اقول لنفسي "يلا لانا شنو حلمنا لليوم" كانت معضمها احلام بسيطة لاينقضي النهار الا وكنت قد حققتها حتى اني في احد الايام كنت قد حلمت بان اكبر يوم وحين انتهى ذلك اليوم حققت حلمي وكنت قد كبرت يوم كامل دون ان افعل اي شيء
كانت لدي تحديات ومغامرات والعاب ورحلات الى كل انحاء العالم كنت استمتت بها كثيرة
كانت مخيلتي خصبة حقاً
اتذكر في يوم ما استيقظت وانا متعبة جدا على غير العادة
كانت حرارتي مرتفعة فتحت عيني لارى صورة ضبابية لشخص ضننتها احدى اميرات افلام الرسوم المتحركة الجميلات اللواتي كنت اشاهدهن على التلفاز اتت لزيارتي لانها شعرت باني متعبة اليوم،
حين ركزت قليلاً تبين انها امي! وبجانبها وعاء مملوء بالماء متوسط البرودة كانت تضع لي الكمادات اعتقد بانها لم تنم ليلة البارحة
في الصباح اخذتني امي لاحدى المضمدات الشعبيات في حينا ذهبنا سيراً لمنزل تلك السيدة وبالاحرى ذهبت امي سيراً لمنزل تلك السيدة لاني لم اسر كانت تحملني طوال الوقت
وصلنا المكان وكان هناك اطفال كنت اعرفهم من المدرسة يقفون امام باب المنزل انزلتني امي وشرحت للسيدة حالتي فقالت السيدة اني بحاجة الى حقنة فحرارتي مرتفعة جداً
يا اللهي حقنة!
كنت وكأي طفل اخر اخاف جدا من الحقن
لكني كنت خائفة اكثر من ان يضحك علي الاطفال حين تعطيني السيدة تلك الحقنة
حملتني امي وقالت لي "ماما لانا لاتبجين اذا بجيتي حيضحكون عليج الاطفال صيري قوية"
حينها تشجعت، حبست انفاسي وكأني ساغوص في بحر من الالم اغمضت عيني، عضضت على اسناني وانتظرت جرعة الالم لتاتي، مرت بضع ثواني دون حصول اي شيء!
فتحت عيني على ابتسامة كبيرة من امي كانت ابتسامتها مطمئنة...
قالت لي بان كل ما فعلته كان بعد اخذي للحقة وان السيدة قد اعطتني تلك الحقنة حين كانت امي تتكلم معي،
كان تشجيع امي لي هو المخدر الحقيقي الذي ساعدني في تجاوز ذلك الموقف بشجاعة، لم يكن لكل ما فعلته فائدة.
لم ابك ولم يضحك علي احد، كنت فخورة بنفسي حقاً
عدنا الى المنزل كنت اسير هذه المرة لاني من الان فصاعداً ولاني لم ابك فقد اصبحت كبيرة ولا اسمح لاحد ان يحملني ثانية...
كبرت وكبر معي كل شيء
امي
ابي
احلامي
عمري الان اربع وعشرون سنة
الان ادركت لماذا كنا نختبئ تحت الدرج...
وادركت بانها لم تكن العاب نارية...
ادركت بان تلك الفتاة الجميلة لم تكن جميلة ابداً كانت الفراشات تعلم ذلك لذلك هربت.
ادركت ايضاً بان الجيران لم يسافروا وان امي قد كذبت علي ! ولن يعودوا ليبنوا لانفسهم منزل اجمل.!
وادركت ان خروجنا جميعاً من تلك الفترة من دون ان نسافر معجزة...
اتمنى لو اني لم ادرك كل هذه الاشياء
اتمنى لو لم اكبر قط.
.
ادراكنا المستمر لحقيقة الاشياء والاشخاص والاماكن وما عشناه هي مسرحية تراجيدية حقيقية نعيشها كل يوم وسنعيشها لبقية حياتنا.